من مفاوضات سياسية إلى ملفات تقاضي دقيقة: واجبات الدول تجاه المناخ أصبحت واضحة
خطوة تاريخية نحو تكريس حماية المجتمعات المتضررة من تغير المناخ
في 23 يوليو/تموز 2025، سجّلت محكمة العدل الدولية لحظة فارقة في تاريخ القانون الدولي حين أصدرت بالإجماع رأيًا استشاريًا يوضح التزامات الدول في مواجهة أزمة المناخ. لم يعد تغيّر المناخ مسألة أخلاقية أو سياسية فحسب، بل أصبح قضية قانونية بامتياز، تحمل عواقب مباشرة على الدول المسببة للانبعاثات، وتمنح المجتمعات الأكثر تضررًا أدوات جديدة للمطالبة بحقوقها.
منذ أن قادت فانواتو وتحالف الدول الجزرية الصغيرة المبادرة، مدعومة بأصوات طلاب وحركات شبابية من المحيط الهادئ، باتت معركة العدالة المناخية حاضرة في أروقة أعلى محكمة دولية. فقد رفضت المحكمة محاولات الدول الملوِّثة الكبرى حصر الالتزامات ضمن اتفاق باريس فقط، وأكدت أن القانون الدولي العرفي، وقانون حقوق الإنسان، وقانون البحار، ومعاهدات حماية البيئة (التنوع البيولوجي، مكافحة التصحر، طبقة الأوزون) كلها مجتمعة تفرض التزامات متوازية على الدول. إنها رسالة واضحة: لا يمكن لأي دولة أن تختبئ خلف ثغرات قانونية لتبرير التقاعس.
أحد الإنجازات الكبرى للرأي هو اعترافه الصريح بأن الوقود الأحفوري - إنتاجًا ودعمًا واستهلاكًا - يعتبر أساس الأزمة، وأن الاستمرار في دعمه أو التباطؤ في التخلص منه قد يشكّل فعلًا دوليًا غير مشروع، للمرة الأولى، يربط القضاء الدولي بين سياسات الطاقة وسيادة القانون، مؤكدًا أن التعويض، وضمان عدم التكرار، ووقف الضرر، هي التزامات قانونية في حال تقاعست الدول عن واجبها.
كما أعادت المحكمة تثبيت مبدأ منع الضرر العابر للحدود: فالانبعاثات لا تعرف حدودًا، ومسؤولية الدولة لا تنتفي بحجة أن الضرر جماعي أو متفرق. وبذلك وضعت المحكمة حدًا للحجج التي اعتبرت أن المناخ لا ينطبق عليه هذا المبدأ.
على المستوى الحقوقي، لم يأتِ رأي المحكمة من فراغ؛ ففي السنوات الأخيرة، اعترف مجلس حقوق الإنسان عام 2021 رسميًا بـالحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة، وتبعه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022 الذي أدرجه ضمن مجموعة الحقوق المعترف بها دوليًا. لكن هذه القرارات لم تُترجم إلى التزامات قانونية مباشرة على الدول، مما جعلها أقرب إلى إعلان سياسي. ما فعله رأي محكمة العدل الدولية هو سدّ هذه الفجوة: فقد اعتبر هذا الحق ملزمًا قانونيًا ومترابطًا مع حقوق أساسية أخرى مثل الحق في الحياة، الصحة، الماء، الغذاء، والسكن. وبذلك وضع الرأي الاستشاري قاعدة صلبة لمساءلة الدول عن أي تقاعس يهدد التمتع بهذه الحقوق، مؤكّدًا أن الالتزامات لا تقف عند الحدود الجغرافية للدول بل تمتد إلى الأثر العابر للحدود لأنشطتها.
وقبل أسابيع فقط من صدور رأي محكمة العدل الدولية، كانت محكمة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان قد اعتبرت في 3 تموز/يوليو 2025 أن أزمة المناخ حالة طوارئ حقوقية، مؤكدة أن الدول والشركات تتحمل التزامات مشتركة لكن متمايزة في التصدي لها، وأن حقوق الأجيال الحالية والمقبلة، والطبيعة نفسها، والمدافعين عن البيئة يجب أن تكون في صلب أي استجابة فعّالة. هذا التراكم في الآراء الاستشارية عبر المحاكم الإقليمية والدولية يعكس تحوّلًا نوعيًا: من توصيات سياسية عامة إلى التزامات قانونية قابلة للتقاضي.
ومن زاوية العدالة بين الأجيال، شددت المحكمة على أن الدول ليست مالكة للموارد الطبيعية بل هي أوصياء ملزمون بنقلها بشكل يحفظ شروط الحياة الكريمة للأجيال القادمة. هذا يعيد صياغة العلاقة بين التنمية والسياسات المناخية، ويمنح الشباب والمجتمعات المحلية أداة إضافية لفرض التزامات على صناع القرار.
أما من حيث النتائج العملية، فقد رسّخ الرأي أن أي دولة تتقاعس عن الحد من الانبعاثات أو عن تنظيم أنشطة الشركات تحت ولايتها، تكون مسؤولة دوليًا، ملزمة بوقف الضرر وتعويضه ماديًا أو معنوياً. وهذا يفتح الباب أمام موجة جديدة من القضايا القضائية ضد الحكومات والشركات، ويعزز أدوات المجتمع المدني في المرافعة والتأثير.
بالنسبة للدول النامية، يمثل الرأي مكسبًا استراتيجيًا، فهو يكرّس مبدأ المسؤوليات المشتركة ولكن المتفاوتة، ويؤكد على واجب الدول المتقدمة في تقديم التمويل والدعم التقني. كما يمنح الدول الضعيفة أساسًا قانونيًا أقوى للمطالبة بالتعويض عن الخسائر والأضرار الناتجة عن الفيضانات، التصحر، ارتفاع البحار، أو تلوث الهواء.
إلى جانب القيمة التاريخية للرأي الاستشاري، تكمن أهميته الحقيقية في فتح الطريق نحو مرحلة التقاضي. فبعد عقود من الاكتفاء بالمفاوضات السياسية والإعلانات غير الملزمة، بات بالإمكان اليوم ترجمة الالتزامات المناخية إلى دعاوى أمام المحاكم الوطنية والإقليمية والدولية. لقد منحت محكمة العدل الدولية المجتمعات والضحايا أدوات قانونية جديدة، حيث لم يعد تغيّر المناخ مجرد قضية تفاوضية بين الحكومات، بل أساسًا للمساءلة القضائية.
إن الانتقال إلى مسار التقاضي يعني أن الدول التي تتقاعس في خفض الانبعاثات، أو التي تستمر في دعم الصناعات الأحفورية، قد تواجه دعاوى دولية تطالبها بوقف الضرر أو تعويضه. كما يفتح المجال أمام الأفراد والمجتمعات المتضررة لرفع قضايا ضد الحكومات والشركات الملوِّثة استنادًا إلى التزامات حقوق الإنسان والبيئة. بهذا يصبح القانون نفسه أداة للنضال الشعبي، ويعزز موقع الحركات الاجتماعية في مواجهة القوى الاقتصادية والسياسية المهيمنة.
بالنسبة للتحالف الدولي للموئل واعضائه من منظمات المجتمع المدني، يمثل هذا التحول فرصة لتعزيز قدرات المجتمعات على استخدام القضاء كمساحة للمطالبة بالحق في السكن اللائق، الأرض، والمياه، باعتبارها حقوقًا متشابكة مع العدالة المناخية. إن الارتقاء إلى مرحلة التقاضي لا يعني فقط ملاحقة المسؤولية، بل أيضًا خلق سوابق قانونية تدفع الأنظمة الوطنية لتعديل سياساتها وتشريعاتها بما يتماشى مع التزاماتها الدولية.
إن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو إعلان تاريخي يعزز مركزية العمل المناخي كالتزام قانوني، ويرسم مسارًا لمحاسبة الدول والشركات الملوِّثة، ويمكّن المجتمعات من رفع صوتها. بالنسبة لنا في التحالف الدولي للموئل وشبكة حقوق الأرض والسكن والشبكات الأخرى المعنية بالدفاع عن الحق في الأرض والسكن والمياه، فإنه يشكّل منصة جديدة لتوسيع مساحة المطالبة، ودعم نضال الفئات المهمّشة التي تعاني من التهجير المناخي، الفقر الحضري، وتراجع الموارد المائية.
اليوم، أضاءت المحكمة الطريق، لكن تحقيق العدالة المناخية لن يتحقق بالأحكام وحدها. إنه يتطلب عملًا جماعيًا يقوده المتأثرون، ويستند إلى التضامن بين الشعوب، ويجبر الحكومات على الوفاء بالتزاماتها. القانون أعطى الشرعية، أما الفعل المقاوم فهو الذي سيحوّلها إلى واقع يضمن بقاء الأرض، الماء، والسكن حقوقًا مكفولة للأجيال الحالية والمستقبلية.
بقلم هلا مراد
23 أغسطس/آب 2025
صورة: الصورة: وزير البيئة في فانواتو، رالف ريجينفانو، يتحدث أمام قصر السلام بعد قرار محكمة العدل الدولية. المصدر: Islands Business.
|