معالجة النزوح في أنحاء أراضي المنطقة العربية
المقدمـة
تشكل فداحة أزمة النزوح في المنطقة العربية معضلة سياسية ملحة للدول العربية، على المستوى الفردي أو الجماعي. فالحاجة إلى إيجاد معالجات وجبر الضرر، ما زالت أمراً ملحاً، ليس فقط للتخفيف من المعاناة والخسائر الناجمة عن هذه الأزمة، بل أيضاً لردع مثل هذه الانتهاكات الجسيمة في المستقبل.
في وقت انعقاد المؤتمر الأول للأراضي العربية (2018)، بلغ عدد العرب المشردين واللاجئين في الدول العربية، ما لا يقل عن 33.4 مليون نسمة، وذلك فقًا للبيانات المتاحة التي جمعتها شبكة حقوق السكن والأراضي التابعة للتحالف الدولي للموئل. وبحلول عام 2022، نشرت الشبكة العالمية لطاقم أدوات الأرض، التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (GLTN)، تقديرات عن عدد النازحين، تتراوح بين أكثر من 21 مليون إلى أكثر من 40 مليون نازح من جميع الجنسيات في جميع أنحاء المنطقة. إلا أنه، بحلول عام 2025، تشير الأرقام المتاحة من أرض الواقع، إلى أن أكثر من 49.8 مليون عربي محرومون من مساكنهم وأراضيهم وممتلكاتهم (HLP)، وغيرها من الحقوق ذات الصلة في منطقتهم، وهو رقم يعادل تقريبًا مجموع سكان السودان.
وهذا الرقم الأخير،لا يشمل العديد من المهاجرين واللاجئين من مناطق أخرى، والتي تستضيفهم الدول العربية، ولكنه يشمل الأسر العربية داخل المناطق التي تعيش في حالة نزوح وتشريد بسبب النزاعات والاحتلال والحروب. ويشمل التقدير الإجمالي لعام 2025 أيضاً، 3.4 مليون شخص نزحوا حتى الآن نتيجة التغيرات المناخية. وبالرغم من الارتفاع في تلك الأرقام مع احتمال زيادتها، فإنها لا تشمل الأشخاص المشردين نتيجة مشاريع التنمية وإعادة التوطين، أو غيرها من أشكال الإخلاء القسري في السياق المحلي.
هذا الاتجاه المتصاعد في عدد الضحايا يشير إلى زيادة بنسبة 38٪ في عدد حالات النزوح التي لم يتم معالجتها خلال عام 2018. وحتى وإن تم التغاضي عن تلك الزيادة المقلقة في عدد المواطنين النازحين من العرب نتيجة التغيرات المناخية، فإن الـ 42.6 مليون نازح المتبقين يمثلون زيادة خالصة بنسبة 27٪ في عدد النازحين بسبب النزاعات والحروب والاحتلال منذ عام 2018. أما بالنسبة للأعداد التي انخفضت بشكل مؤقت في بعض البلدان، مع برامج العودة و/أو إعادة التوطين (مثل العراق وليبيا وسوريا) فقد قابلها خلال هذه الفترة، نزوح أعداد أخرى جديدة نتيجة النزاعات التي اندلعت في بلدان (مثل لبنان وفلسطين والسودان وسوريا).
إمكانية إيجاد نهج للمنطقة العربية؟
تشكل كذلك تلك الأزمة فرصة للتعاون عبر الحدود من أجل تطبيق مبادئ بينيرو لاستعادة حقوق ملكية المساكن والأراضي والممتلكات (HLP) لملايين المواطنين العرب المؤهلين للحصول على جبر الضرر. كما تشير الدروس المستفادة على مدى عقود للحاجة إلى إجراء إصلاحات جذرية في إدارة الأراضي ضمن التدابير الإنصافية والوقائية التي يتعين اتخاذها.
وفي عام 2025، نشرت الأمم المتحدة دليلها الإسترشادي الذي طال انتظاره لتنفيذ مبادئ بينيرو في المنطقة العربية. هذا الدليل الذي من شأنه ان يوفر أداة أخرى لصياغة السياسات الإقليمية، ومنهجية تنفيذ في الإنصاف وجبر الضرر، لعشرات الملايين من الأسر العربية المشردة والمجردة من ممتلكاتها.
وتقدم النُهج الإقليمية عدة مزايا:
- بينما لا تزال الحيادية من الموظفين المدنيين الأممين تحظى بالتقدير، فإن النهج الإقليمي العربي هو الأنسب لمعالجة الخصوصيات المحلية وبلغتها المحلية وضمن ثقافة مشتركة.
- يمكن للصكوك الإقليمية المعيارية أن تساهم في تكريس التزامات الدول وواجباتها ذات الصلة، في سد الثغرات في سياسات المتعلقة بالسكن والأرض، وإيجاد مواءمة فيما بين التفاوتات المعيارية في كافة أرجاء المنطقة، في ظل أن الدول العربية ليست جميعها أطرافاً في نفس الأنظمة القانونية والنظم الإقليمية والمعاهدات ذات الصلة وغيرها من الصكوك.
- كما تتطلب الآثار العابرة للحدود والناجمة عن النزاعات، والمخاطر البيئية، وتغير المناخ، اتخاذ تدابير فيما بين الدول تشمل أيضا الاسترداد للمساكن والأراضي والممتلكات.
- انطلاقاً من وجود قاعدة معرفية مشتركة على الصعيد الإقليمي، يمكن للجهات الفاعلة المحلية المعنية بتلك القضايا، بما في ذلك أجهزة الدولة مثل السلطات المحلية والبلديات، أن تضع آليات للتعاون في هذا المجال.
- محاولة إيجاد تقارب بين الجهات الفاعلة الإقليمية، يعتبر إشارة إلى أن المصالح طويلة الأجل والمساءلة من المرجح أن تكون جزءًا لا يتجزأ من النتائج.
- يمكن أن يؤدي تضافر الموارد الإقليمية بجميع أنواعها إلى تحسين المستويات الاقتصادية الكلية، لتحقيق أقصى قدر من التأثير المنصف والتدابير الرامية إلى منع انتهاكات حقوق استرداد المساكن والأراضي والممتلكات في المستقبل.
وبالرغم من حجم أزمة النزوح العربي الآخذة في التصاعد، وعواملها المعروفة، من تفاقم الظلم وتراكم التكاليف على كاهل الضحايا، لا يزال النهج الإقليمي العربي لاستعادة المساكن والأراضي والممتلكات غير مكتمل. ومع ذلك، هناك سوابق مشجعة من أطراف متعددة منها في منطقة البلقان بعد الحرب، ومنطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا. وذلك المثال الأخير يوضح مبادئ بينيرو، من خلال اقتراح استخدام آليات تقليدية لحل النزاعات، وإيجاد أشكال بديلة من الأدلة مثل علامات الحدود الجغرافية، ورسم خرائط المجتمعات المحلية، والاستعانة بالشهود، لتأكيد حقوق استعادة المساكن والأراضي والممتلكات.
ويمكن أن يكون الإطار المحتمل لمثل هذا النهج الإقليمي، من خلال العملية التشاورية الإقليمية العربية، المعنية بشؤون الهجرة واللاجئين، التي تضم 22 دولة، و بدأت في عام 2015. بالرغم من أن تركيزها الحالي يشمل 12 موضوعًا، متجاهلين موضوعات اللاجئين والمشردين داخل المنطقة واستعادة المساكن والأراضي والممتلكات. كما تشير الاستراتيجية الإقليمية لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، بشأن تغير المناخ إلى مشروع واحد يتعلق بـ ”القدرة على الصمود والتعافي“ والمياه، للأشخاص النازحين بسبب تغير المناخ عبر الحدود في كل من لبنان والأردن، ولكنها لا تقدم أي سبل انصاف لخسائر المأوى والغذاء والماء.
إن فهم عوامل وتأثيرات النزوح في الدول العربية، من شأنه أن يشجع الحكومات والمجتمع المدني على سد الثغرات في استجابات السياسات الإقليمية المتعلقة باستعادة الأراضي والممتلكات. وعلى العكس من ذلك، فإن عدم وجود مثل هذا الإنصاف، سيواصل قطع علاقة المتضررين بأرضهم، وتعميق الظلم الاجتماعي، وتقويض ثقة الشعوب في الحكومات والنظام الدولي، بينما يُحكم على عدد من السكان العرب مساو لعدد سكان السودان بأكمله، بالفقر المدقع والبؤس الدائم.
تقييم الاحتياجات والمبادرات المدنية
حاولت مبادرات المجتمع المدني جاهدة سد الثغرات في الجهود المطلوبة على المستوى الرسمي، أو على الأقل تحديدها. ففي اليمن، أوردت شبكة الشباب العربي للتنمية المستدامة (ASDN) نتائج البحوث والمشاورات مع الجهات اليمنية المعنية بشأن النزوح بسبب مصادرة الأراضي في سياق (1) الفساد السياسي والحكم القبلي قبل عام 2011، و(2) تأثير النزاع الحالي. وقد أشار تحليلهم إلى الشروط اللازمة لاسترداد حقوق ملكية المساكن والأراضي والممتلكات للنازحين في اليمن، وذلك في إطار السعي لتحقيق العدالة التصالحية.
وتشمل التحديات الأمنية والقانونية والإدارية لإعمال حقوق الملكية للنساء النازحات، وخلق فرص العمل، وإعادة إعمار البنية التحتية. ومع ذلك، تحث شبكة الشباب العربي للتنمية المستدامة، على إحياء عمليات العدالة الانتقالية، وتفعيل السجل العيني، بالتعاون مع الأشخاص المتضررين في إطار خطة للتعافي وإعادة الإعمار، تتيح المشاركة المدنية النشطة وريادة الأعمال. وتتوخى الشبكة إشراك الشباب في إطار معياري يعزز حقوق المرأة وقيادتها، ويحقق العدالة للمجتمعات المهمشة، ويسعى إلى تحقيق السيادة الغذائية، ويوازن بين التنمية الريفية والحضرية باستخدام أقصى قدر من الموارد المتاحة.
أما منظمة إنسايت في سوريا بوضع تصنيف لقضايا النزوح واستعادة المساكن والأراضي والممتلكات في منطقة شمال سوريا خلال 14 عامًا من الصراع في ذلك البلد، ولا سيما في ظل التحديات التي تواجه العائدين في استرداد حقوقهم في المساكن والأراضي والممتلكات. كما أن النساء هناك تعاني كذلك، من تمييز متعدد في كل من عملية النزوح والعودة، وغالبًا ما يفتقرن إلى وجود الدعم القانوني أو الوثائق المدنية اللازمة.
في هذا السياق، أدى استيلاء الميليشيات الموالية للحكومة التركية على الأراضي والبنية التحتية، إلى حرمان سكان مناطق شمال سوريا من مواردهم المائية الحيوية، إلى جانب عمليات مصادرة المنازل والاستيلاء على الأراضي، وما ترتب على ذلك من موجات نزوح. وفيما يتعلق بالعراق، استوعب منظمة إنسايت، تلك الدروس المستفادة من برامج استعادة المساكن والأراضي والممتلكات، التي نفذها برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في منطقة سنجار.
كما أن الدروس المستفادة والتعهدات الناشئة من دورة منتدى الأرض الإقليمي لعام 2024، والتي خصصت لمعالجة أزمة النزوح والتهجير في المنطقة العربية، تعمل شبكة حقوق الأرض والسكن، على تعزيز نهج جماعي للمجتمع المدني، يستند إلى التزامات الدول في مجال حقوق الإنسان. وقد أظهرت جهود الشبكة من خلال قاعدة بيانات الانتهاكات، وأدوات تقييم أثر الانتهاكات، والرصد المنتظم، الحاجة إلى زيادة الوعي بالمعايير المعمول بها، وتقديم تقارير أكثر دقة، والدعوة لدى الحكومات في جميع أنحاء المنطقة من أجل تحقيق هدف لإيجاد برامج أكثر اندماجاً وتكاملاً لاستعادة المساكن والأراضي والممتلكات.
|